ضوابط التداوي بالرقى والتمائم في الفقه الإسلامي
الدكتور محــــمـد عثمان شـــــــبير
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)(131).
(يـا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)(132). (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)(133).
أما بعد! فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن موضوع التداوي بالرقى والتمائم من الموضوعات المهمة في هذا العصر، والتي يحتاج إليها كثير من الناس، وبخاصة بعد أن انتشرت مراكز العلاج بالرقى والتمائم، وكثر من أقحم نفسه في معالجة الناس بها دون أن يعرف أصول التداوي بها، والضوابط الشرعية لها. كما كثر المترددون على تلك المراكز وتهافتوا عليها من غير معرفة حقيقية للغث والسمين منها؛ فكتبت هذا البحث لبيـان
131- سورة آل عمران: (102)
.132- سورة النساء: (1).
133- سورة الأحزاب : (70-71).
حقيقة التداوي بالرقى والتمائم، وأحكامها الشرعية، وضوابط التداوي بها. ولما كان البعد الفقهي هو الأساس في هذا البحث، فقد رجعت إلى عدد وافر من المصادر الفقهية التي تمثل أكثر المذاهب الفقهية ذيوعاً، هذا بالإضافة إلى كتب العقيدة، وكتب تفسير القرآن الكريم، وشروح الأحاديث النبوية الشريفة، وكتب اللغة والمصطلحات وغير ذلك.
وقد قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مباحث وخاتمة:
تكلمت في المبحث الأول: عن حقيقة التداوي بالرقى والتمائم، وفي المبحث الثاني: أحكام التداوي بالرقي والتمائم، وفى المبحث الثالث: ضوابط التداوي بالرقى والتمائم، وفى الخاتمة لخصت أهم نتائج البحث. والله أسال أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
المبحث الأول
حقيقة التداوي بالرقى والتمائم
لما كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره، فلابدّ من بيان حقيقة التداوي بالرقى والتمائم. ولتحقيق ذلك لابد من معرفة معنى التداوي وحكمه، وموقع الرقى والتمائم منه، وبيان معنى كل من الرقى والتمائم، وواقع الرقى والتمائم في الجاهلية.
المطلب الأول: موقع الرقى والتمائم من التداوي.
التداوي بالرقى والتمائم نوع من أنواع التداوي. فما معنى التداوي وما حكمه وما أنواعه؟
أولاً : معنى التداوي
التداوي لغة: مصدر تداوى، أي تناول الدواء. وهو مأخوذ من داواه مداواة: عالجه (134). وجمع الدواء أدوية، وهو: اسم لما استعمل بقصد إزالة المرض والألم"(135). ويطلق على المرض الداء. وهو مصدر من داء الرجل يداء. وفى لغة: دَوى يَدْوَى دوي. وجمع الداء أدوية وهو: "علة تحصل بغلبة الأخلاط على بعض"(136).
والتداوي لا يخرج في استعمال الفقهاء عن المعنى اللغوي له. فهو: "ما يكون به شفاء المرض بإذن الله من عقار (طبي)، أو رقية، أو علاج طبيعي: كالتدليك ونحوه"(137).
134-انظر معجم مقابيس اللغة لابن فارس (2/309) والمصباح المنير للفيومي (1/278) والقاموس المحيط للفيرزو ابادي (1656)
.135- انظر الكليات لابن البقاء العكبري (2/339)
.136- انظر التعريفات للجرجاني (138)
. 137- انظر الفتاوى الهندية (5/354) وكتاب الجامع من المقدمات لابن رشد (313) والقوانين الفقهية لابن جزي (4859) والمجموع للنووي (5/95) والانصاف للمرداوي (2/463).
ثانياً : حكم التداوي
اتفق فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على مشروعية التداوي(138)، واستدلوا لذلك بما يلي:
1- روى الإمام مسلم - بسنده - عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل"(139).
فالحديث فيه إشارة إلى مشروعية التداوي، لأن الأشياء تداوى بأضدادها، فإذا لاقى الدواء الداء برئ بإذن الله تعالى المريض. لكن قد يدق المرض، وتغمض حقيقته، وقد تغمض حقيقة طبع الدواء فيتأخر البرء. قال القرطبي: هذه كلمة صادقة العموم لأنها خبر عن الصادق عن الخالق؛ ألا يعلم من خَلَقَ. فالداء خلقه، والشفاء والهلاك فعله، وربط الأسباب بالمسببات حكمته، وحكمه. وكل ذلك بقدر لا معدول عنه(140).
ولهذا كانت وصفات النبي صلى الله عليه وسلم الطبية قطعية متيقنة قال ابن القيم: "وليس طبه- صلى الله علية وسلم- كطب الأطباء، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة، وكمال العقل. وطب غيره أكثره حدس وظنون. ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء له"(141).
138- انظر شرح النووي على مسلم (14/191) ش ح(2204)
.139- أخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام: باب لكل داء دواء واستحباب التداوي ح(2204) وانظر تحفة الأشراف ح(2785) وأحمد في مسنده (3/335).
140- انظر فيض القدير للمناوي (5/283).141- انظر الطب النبوي لابن القيم (35-36).
2- وما روى الترمذي -بسنده- عن أسامة بن شريك قال: "قالت الأعراب : يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال: دواء- إلا داءً واحداً. قالوا يا رسول الله وما هو؟، قال: الهرم"(142).
فالحديث يدل على أن التداوي مباح غير مكروه، وقد سمى الهرم داء، لأنه جالب للتلف: كالأدواء التي يتعقبها الموت والهلاك(143).
3- ما روى أبو داود بسنده- عن أبى الدرداء قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء فتداووا، ولا تتداووا بمحرم"(144).
فالحديث يدل على جواز التداوي، لأن إنزال الدواء من الله تعالى أمارة على ذلك(145).
ثالثاً : أنواع التداوي وموقع الرقى والتمائم منها
استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في علاج أمراض البدن ثلاثة أنواع من الأدوية وهى: أحدها: العلاج بالأدوية الطبيعية، مثل العسل والحبة السوداء. والثاني: العلاج بالأدعية والأذكار: كالرقي بآيات القرآن الكريم. والثالث: العلاج المركب من الأمرين(146).
142- أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في الرجل يتداوى ح(3855) والترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في الدواء والحث عليه ح(2045) قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه: كتاب الطب: باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ح(3436) وانظر تحفة الأشراف ح(127) وأحمد في مسنده (4/278) وانظر صحيح سنن ابن ماجة ح(2772).
143- انظر معالم السنن للخطابي (5/346) ش ح(3706).
144- ذكره الهيثمي في المجمع (5/86) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. وحسنه الألباني في الصحيحة ح(1633) وقال: هذا إسناد حسن ورجاله ثقاب معروفون غير ثعلبة هذا، ذكره ابن حبان في (الثقات) وروى عنه جمع، فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى إذا لم يخالف. وله شواهد ذكرها الألباني في السلسلة الصحيحة تحت ح(1633).
145- انظر الفواكه الدواني للنفراوي (2/440).
146- انظر الطب النبوي لابن القيم (24).
ويرجع سبب هذا التنوع إلى طبيعة تكوين الإنسان، فهو مركب من بدن، وروح. قال تعالى (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه. وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون)(147).
فالأدوية الطبيعية تناسب البدن، والأدوية الإلهية تناسب البدن والروح معاً، فهي تؤدى إلى اطمئنان القلب وقوته وانتعاشه، كما تؤدى إلى قوة النفس ودفع الأوهام التي ينتج عنها كثير من أمراض البدن.
ولهذا ينبغي على المسلمين استعمال النوعين من الأدوية، دون إفراط أو تفريط، أو دون إهمال لأحدهما، وتزيد في الآخر. فنرى بعض الناس يُفِّرطُون في التداوي بالأدوية الإلهية من الرقى والتمائم والتعويذات مقتصرين في علاج الأمراض على الأدوية الطــبيعية. فهؤلاء قد حرموا أنفسهم من بركات القـرآن الكريم والأدعية والأذكار. وفى المقابل نجد آخرين أهملوا الدواء الطبيعي وزهدوا الناس فيه، وأفرطوا في استعمال الأدوية الروحية، ولم يقفوا عند الرقى الشرعية، وأدخلوا فيها ما ليس له معنى، وأصبحوا يكتبون الأحجبة والتمائم، ويستعينون في كتابتها بكتب الدجل والشعوذة، واتخذوا ذلك حرفة ومورداً للرزق فضلوا وأضلوا، وأوقعوا الناس في حبائلهم، وأكلوا أموالهم بالباطل.
والاعتدال في ذلك اتباع هدى النبي صلى الله عليه وسلم في علاج الأمراض، بحيث يجمع بين التداوي بالأدوية الطبيعية والعقاقير الطبية التي دلت الأبحاث العلمية على فائدتها في علاج الأمراض، وبين التداوي بالأدوية الإلهية من الرقى الشرعية التي ضبطتها الشريعة الإسلامية. ومما يؤيد ذلك ما روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسـان الشيء
147- سورة السجدة: (7-9).
منه، أو كانت به قرحة أو جرح؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا (و وَضَع سفيان سبابته على الأرض ثم رفعها) باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا"(148).
ومعنى الحديث أنه يأخذ بريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلق بها شيء: فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل، ويقول هذا الكلام في حال المسح(149). فهو يجمع بين الأدوية الطبيعية، والأدعية والأذكار.
وروى عن علي رضى الله عنه: لدغت النبَّي صلى الله عليه وسلم عقربٌ وهو يصلى، فلما فرغ، قال: لعن الله العقرب، لا تدع مصلياً ولا غيره. ثم دعا بماء وملح فجعل يمسح عليها ويقرأ (قل يا أيها الكافرون …) و(قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس)(150).
فالحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الدواء المركب من الأدوية الطبيعية والأدعية والأذكار.
148- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب رقية النبي (صلى الله عليه وسلم) ح(5746) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمه والنظرة ح(2194) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3895) وابن ماجة في سننه: باب ما عوذ به النبي (صلى الله عليه وسلم) وما عوذ به ح(3521) وانظر تحفة الأشراف ح(17906) وأخرجه أحمد في مسنده (6/93) والبغوي في شرح السنة (5/224) والنسائي في اليوم والليلة ح(1023) وابن السني في اليوم والليلة ح(576)
.149- انظر شرح النووي على مسلم (14/184) ش ح(2194).
150- أخرجه ابن ماجة في سننه: كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة ح(1246) وانفرد به- انظر تحفة الأشراف ح(16125). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ح(1030). وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ح(547) و(548).
بهذا يتبين أن الرقى والتمائم عنصر مهم في باب التداوي من أمراض البدن والروح، وهى المرتكز الأساسي في العلاج لكل من الطبيب والمريض. فما حقيقة الرقى والتمائم؟ هذا ما سنجيب عنه في المطلب التالي- إن شاء الله تعالى.